الحمد لله والسلام على سيدنا وحبيبنا رسول الله، اللهم صلي وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد..
إخواني وأخواتي في الله تبارك وتعالى، نريد أن نتبنى آيات نسمعها، ليس فقط لتصح بها الصلاة، وإنما لنصنع بها الحياة، هناك من يسمع القرآن أو يصلي بآيات من القرآن لتصح صلاته، وتنتهي المسألة عند هذا الإطار الضيق.
وهناك من جعل هذا القرآن مفتاحا لإصلاح كل باب مغلق في الحياة كلها، وسورة يوسف من سور القرآن التي تتجلى فيها صورة الابن والأخ، والفقير والغني الصالح سيدنا يوسف عليه السلام.
سماه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، فهو الابن البار بأبيه، يأتي إلى جوار أبيه فيحكي له أحلامه، يحكي لأبيه أحلامه، انظروا إلى مدى علاقة الابن بأبيه!! فإلى أي مدى صارت علاقة الآباء بالأبناء؟
بعض الآباء صاروا لا يعلمون ما يفعله الأبناء، سواء من إنجازات ضخمة أو من جرائم كبيرة، وكما قال الشاعر:
ليس الفقير الذي تلقى له... أمًا تخلت أو أبًا مشغولًا.
أب بدرجة ممول، يأتي بالمال فقط، وأم بدرجة خادمة لإدارة الخدمات العامة، لكن أبًا مثل سيدنا يعقوب يعطي وقتًا لولده، لا ليشاهد تصرفاته فقط، وإنما ليسمع أحلامه، النتيجة أن الابن يتكلم بمنتهي اللطف، ويحكي لأبيه حتى أحلامه (يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا).
ثم يؤخذ من بين أبيه الذي يحبه ويوضع في غيابة الجب ويباع كعبد، ويعيش عبدًا فترة ثم يدخل السجن؛ لأنه لم يرتكب جريمة، لم يرتكب كبيرة، ثم في أول فرصة يقول لإخوته: (اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ)، ولما دخل والده (رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ).
أما نحن فقد أصبح عندنا نكران للجميل من كثير من الأبناء. في أمريكا نشرت أم إعلانًا في الجرائد "أسرة للإيجار" فأولادها يعيشون معها في المدينة، لما كبرت وضعوها في بيت المسنين، لا أحد يسأل عنها، لا أحد يكلمها، في الأعياد لا يقول لها أحد: كل سنة وأنت طيبة، أو عيد ميلاد سعيد، أو سنة سعيدة، لا أحد يقول لها شيء أبدًا.
"تعبت" فماذا فعلت؟!
قالت أنا أريد أسرة للإيجار، إنسان يأتي يقول لي: أنت ماما، أنت جدتي، وأنا أدفع في الساعة ألف دولار، فأحد الأمريكان قال: هذا بيزنس ممتاز، فقام بعمل شركة بعنوان "أسر للإيجار"،
أهذه حضارة اليوم التي أفقدت الأم أمومتها، والأب أبوته، والابن بنوته واعترافه بالفضل، هذه هي الحضارة التي يريدوننا أن نترك حضارة سيدنا يوسف؛ لنعيش حضارة العم سام، وجورج بوش، وكلينتون...، والدنيا تسير، يقال لك:
إذا قالت حزامي فصدوقها.. فإن القول ما قالت حزامي.
حزامي هذه طلعت الآن أيه؟ ماما أمريكا!!.
الإسلام جعل البنوة والأبوة علاقة سامية جدًّا، انظروا إلى علاقة إبراهيم بإسماعيل وإسحاق، علاقة سيدنا يعقوب الأب، يبكي حتى يفقد بصره (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)، ابيضت عينيه لماذا؟ لأنه أب، ولأنه عنده ابن محترم، لما غاب عنه سنين طويلة، ظل يبكيه حتى عمي، والابن أول شيء (اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ).
أب عربي مات بالسكتة القلبية؛ لأنه تعب، كان يسير حافيًا لكي يشتري لابنه حذاء يرتديه، ويدفع له مصاريف المدرسة، ولما كبر الولد وذهب إلى المدرسة، وأصبح له صاحبات من البنات، قابل والده ذهب يسلم عليه بحرارة ومعه البنت صاحبته، قال لها: هذا الخادم الذي يعمل عندنا في البيت، فمات الأب بالسكتة القلبية؛ لأن هذا تربية ماذا؟ تربية الحضارة المادية التي لا تعرف الفضل لأهله.
سيدنا يوسف رغم كل ما فعله إخوته فيه، قدم للأمة النموذج الذي يعمل ثلاثة أشياء، لكي نكون صائمين بصحيح، إذا لم نصل إلى هذه الثلاثة أشياء لا نكون صائمين، وسيكون صيامنا صيام البدن فقط.
وأول صفات المتقين.. (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
أخوة يوسف قاموا بالشروع في جريمة قتل، ثم بدا لهم أن يدعوه في الجب ليأكله شيء في الجُب، وبعد سنوات طويلة اتهموا أخاهم الذي وضعوه في الجب وهو صغير جدا، (قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ)، ظلم وهو صغير وليس عنده إمكانيات، وليس عنده سلطة.
أراد الله أن يقدم لنا نموذجًا في يوسف الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، أن يتهمه إخوته بالسرقة، وهو على رأس السلطة، وذهبوا يتوسلوا إليه، فاتهموا يوسف أمامه، وهم لا يعرفون أنه يوسف.
ادخروا طاقة العداء
(قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فقد سرق أخ له من قبل) هو سارق مثله أخيه، فكان رد نبي الله يوسف (فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ)، (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ).
ولما جاءوا له المرة الثانية: (قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ)، أصعب كلمة قيلت، أعلى كلمة قيلت: (إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ. قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي) درس للأمة أنه من يتقِ، لا ينتصر لنفسه، إذا هوجم الإسلام انتفضنا، وإذا هوجم الأشخاص احتسبنا.
شخص أذاك، وآخر يؤذي الإسلام، لما الأمة صار كل واحد ينتصر لنفسه، لشخصه، وما غضب النبي لنفسه أبدًا، لم نعد نغضب للأمة، لم نعد نغضب للرسول، لم نعد نغضب للقدس للأقصى، لماذا؟ لأننا استنفذنا العداء مع الأخ، والأخت، والأب، والعم، والخال، والحما، والحماة، والجار، لم يعد لدينا طاقة عداء، لكن المسلم الصحيح يدخر كل طاقة العداء لأعداء الله ورسوله.
سيدنا يوسف ـ عليه السلام ـ بعد كل هذا الذي حدث، الاعتداء على شخصه، ومحاولة قتله، واتهامه بالسرقة، (قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا)، لماذا؟ (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ).
ومن التقوى أن أعفو عمن ظلمني، وأن أصل من قطعني، وأن أُعطي من حرمني، هذه من التقوى، (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)، يبقى الإحسان والعفو والترفع عن السفاسف، والدخول في معارك جانبية، هذا من أسباب الرفعة في الدنيا والآخرة.
(قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ)، (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، (قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) بسرعة كان دعاؤه (يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
الأب قال: (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ)؛ لأنه الأب أيضًا، إذا جرح الأب في خاصة نفسه يعفو بسهولة، لكن إذا جرح في ابنه يعفو بصعوبة.
والسن أيضًا له حكمه، فالشباب يعفو أسرع، والشيوخ يأخذون بعض الوقت كي يعفو ويصفحو. سيدنا يوسف وهو فقير جدًّا، وهو يعيش في كنف أسرة كبيرة جدًّا في الغنى، والثراء، والجمال، يوضع في ابتلاء شديد، يتعرض للفاحشة، وهو لم يفعل شيء مما يفعله الشباب، الذي يبحث بنفسه عن البنات. تأتيني كل يوم مشاكل ورسائل تشيب لها الرؤوس، شبابنا في ضياع، نحتاج إلى أمثالكم ليأخذوا بيد شبابنا، وأبناءنا، وبناتنا.
سيدنا يوسف، المرأة تهيئ له كل شيء، وتغلق الأبواب، وتقول: (وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ)، فيمنعه أمران:
ـ أمر عقيدي.
ـ وأمر أخلاقي.
الأمر العقيدي.. يقول لها: (قَالَ مَعَاذَ اللّهِ).
وأمر أخلاقي.. هذا الرجل –زوج امرأة العزيز- أحسن إلي، وقال: (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ) أفيعقل مروءة أن أخون الرجل في عرضه وقد أكرمني؟!.
لا يصح، مروءة، أين المروءة التي قلت في الناس؟ المروءة قلّت،، نريد للمسلم أن يكون ذو مروءة، إذا دعي للنقائص أن يقول: لا، يترفع، إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفاسفها.
فيوسف وهو فقير يدعي للزنا وتهيئ له جميع الأشياء، فهو جميل، وكله فتوة وحيوية، يأبى، ثم ماذا؟ لم يقتصر الأمر على امرأة العزيز، بل كثير من النساء بدأن يرسلن له رسائل.
وبدا منهن الإصرار على إيقاعه في الفاحشة فخيرنه بين فعل الفاحشة ودخول السجن فكان جوابه: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)، يقول: مما يدعوني لا تدعونني، يعني لم تعد زليخة فقط امرأة العزيز، بقى كل النساء في القصر، أصبح هم كل واحدة منهن أن تظفر بسيدنا يوسف ليفعل معها الفاحشة.
(قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
ويدخل السجن، ولما حدثت رؤيا ملك مصر وفسرها يوسف عليه السلام، يُدعى للخروج من السجن، فيأبي، ويقول: لا أخرج إلا أن يكون عرضي سليما، (قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ).
لم يجر على الملك ويقول له: أنا تحت الأمر والإذن، لا، لا، فهو مسلم عزيز، لا يخرج وفي ذيله تهمة باطل، لا بد أن تنتهي هذه التهمة، سيدنا يوسف ـ عليه السلام ـ العبد الرباني وهو غني، وهو في رأس المُلك، يأتي في خلوة مع الله ويقول: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ).
يعني واحد ماسك رأس السلطة، ويناجي ربه بهذه الكلمات الرقيقة: ربِ، لا يقول هذا من التخطيط، وكذا وكذا، لا، (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) أنت الذي أتيتني بهذا الخير كله، (وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ) كل أمنيته شيئين: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) سيدنا يوسف يقول: (وَأَلْحِقْنِي) وماذا عنا نحن، إذا كان سيدنا يوسف يقول: يا رب ألحقني بالصالحين.
رحم الله الشافعي عندما كان يقول:
أحب الصالحين ولست منهم.. لعلِ أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي.. وإن كنا سويًّا في البضاعة.
جزاكم الله خيرًا.. وشكر الله لكم.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
_____________
من الأرشيف الصوتي لفضيلة الدكتور صلاح سلطان.
الكاتب: أ.د صلاح الدين سلطان
المصدر: موقع أ.د صلاح الدين سلطان